سورة التوبة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
{إِنَّمَا النسىء} هو مصدر نسأه إذا أخره وجاء النسي كالنهي والنسء كالبدء والنساء كالنداء وثلاثتها مصادر نسأه كالنسىء، وقيل: هو وصف كقتيل وجريح، واختير الأول لأنه لا يحتاج معه إلى تقدير بخلاف ما إذا كان صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل ذو زيادة أو إنساء النسىء زيادة، وقد قرئ بجميع ذلك.
وقرأ نافع {النسي} بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء، والمراد به تأخير حرمة شهر إلى آخر، وذلك أن العرب كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرًا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرًا فإن احتاجوا أيضًا أحلوه وحرموا ربيعًا الأول وهكذا كانوا يفعلون حتى استدال التحريم على شهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة، ورا زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حرامًا أيضًا، ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة، وكان يختلف وقت حجهم لذلك، وكان في السنة التاسعة من الهجرة التي حج بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع في ذي الحجة وهو الذي كان على عهد إبراهيم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد استدار» الحديث، وفي رواية أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وهكذا، ووافقت حجة الصديق في ذي القعدة من سنتهم الثانية، وكانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان من قبل ولذا قال ما قال، أي إنما ذلك التأخير {النسىء زِيَادَةٌ فِى الكفر} الذي هم عليه لأنه تحريم ما أحل الله تعالى وقد استحلوه واتخذوه شريعة وذلك كفر ضموه إلى كفرهم.
وقيل: إنه معصية ضمت إلى الكفر وكما يزداد الإيمان بالطاعة يزداد الكفر بالمعصية.
وأورد عليه بأن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فإنها من الإيمان على رأي. وأجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} إضلالًا على إضلالهم القديم، وقرئ {يُضِلَّ} على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفاعل هو الله تعالى، أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على قراءة الأولى أيضًا، وقيل الفاعل في القراءتين الشيطان، وجوز على القراءة الثانية أن يكون الموصول فاعلًا والمفعول محذوف أي أتباعهم، وقيل: الفاعل الرؤساء والمفعول الموصول. وقرئ {يُضِلَّ} بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل، و{نضل} بنون العظمة {كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ} أي الشهر المؤخر، وقيل: الضمير للنسىء على أنه فعيل عنى مفعول {عَامًا} من الأعوام ويحرمون مكانه شهرًا آخر مما ليس بحرام {وَيُحَرّمُونَهُ} أي يحافظون على حرمته كما كانت، والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجىء إن شاء الله تعالى: {عَامًا} آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدور من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مردّ لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرًا يغزون فيه فيقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وركبوا الأزجة وأغاروا.
وعن الضحاك أنه جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعًا في الجاهلية وكان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت: عليكم المحرم فحرموه، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت النساءة حي من بني مالك بن كنانة وكان آخرهم رجلًا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكًا في قومه وأنشد شاعرهم:
ومنا ناسىء الشهر القلمس ***
وقال الكميت:
ونحن الناسئون على معد *** شهور الحل نجعلها حرامًا
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول من سن النسىء عمرو بن حلي بن قمعة بن خندف. والجملتان تفسير للضلال فلا محل لهما من الإعراب، وجوز أن تكونا في محل نصب على أنهما حال من الموصول والعامل عامله {لّيُوَاطِئُواْ} أي ليوافقوا، وقرأ الزهري {ليوطئوا} بالتشديد {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} من الأشهر الأربعة، واللام متعلقة بيحرمونه أي يحرمونه لأجل موافقة ذلك أو بما دل عليه مجموع الفعلين أي فعلوا ما فعلوا لأجل الموافقة، وجعله بعضهم من التنازع {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} بخصوصه من الأشهر المعينة، والحاصل أنه كان الواجب عليهم العدة والتخصيص فحيث تركوا التخصيص فقد استحلوا ما حرم الله تعالى: {زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى أي جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، وقيل: خذلهم حتى رأوا حسنًا ما ليس بالحسن، وقيل: المزين هو الشيطان وذلك بالوسوسة والإغواء بالمقدمات الشعرية {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} هداية موصلة للمطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال، والمراد من الكافرين إما المتقدمون ففيه وضع الظاهر موضع الضمير أو الأعم ويدخلون فيه دخولًا أوليًا.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
{يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} عود إلى ترغيب المؤمنين وحثهم على المقاتلة بعد ذكر طرف من فضائح أعدائهم {مَا لَكُمْ} استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله} أي اخرجوا للجهاد، وأصل النفر على ما قيل الخروج لأمر أوجب ذلك {مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ} أي تباطأتم ولم تسرعوا وأصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش فأدغمت التاء في الثاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن ونظيره قول الشاعر:
تؤتى الضجيع إذا ما اشتاقها خفرا *** عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
وبه تتعلق {إِذَا} والجملة في موضع الحال، والفعل ماض لفظًا مضارع معنى أي مالكم متثاقلين حين قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم انفروا، وجوز أن يكون العامل في {إِذَا} الاستقرار المقدر في {لَكُمْ} أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك أي أي شيء حاصل أو حصل لكم أو ما تصنعون حين قيل لكم انفروا، وقرئ {اثاقلتم} بفتح الهمزة على أنها لاستفهام الإنكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت في الدرج، وعلى هذه القراءة لا يصح تعلق {إِذَا} بهذا الفعل لأن الاستفهام له الصدارة فلا يتقدم معموله عليه، ولعل من يقول يتوسع في الظرف ما لا يتوصع في غيره يجوز ذلك، وقوله سبحانه: {إِلَى الارض} متعلق باثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ولولاه لم يعد بإلى، أي أثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه المستتبعة للراحة الخالدة والحياة الباقية أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم والأول أبلغ في الإنكار والتوبيخ ورجح الثاني بأنه أبعد عن توهم شائبة التكرار في الآية، وكان هذا التثاقل في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف أقام بالمدينة قليلًا ثم استنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليه الشخوص لذلك.
وذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قلما يخرج في غزوة الأكنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه عليه الصلاة والسلام بينها للناس ليتأهبوا لذلك أهبته {أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا} وغرورها {مِنَ الاخرة} أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم {فَمَا متاع الحياة الدنيا} أي فما فوائدها ومقاصدها أو فما التمتع بها وبلذائذها {فِى الاخرة} أي في جنب الآخرة {إِلاَّ قَلِيلٌ} مستحقر لا يعبأ به، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، و{فِى} هذه تسمى القياسية لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به، وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويسدعي الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.
وقد أخرج أحمد. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن المسور قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر ترجع». وأخرج الحاكم وصححه عن سهل قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال: أترون هذه الشاة هينة على صاحبها؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على صاحبها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» ولا أرى الاستدلال على رداءة الدنيا إلا استدلالًا في مقام الضرورة. نعم هي نعمت الدار لمن تزود منها لآخرته.


{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
{إِلاَّ تَنفِرُواْ} أي ألا تخرجوا إلى ما دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج له {يُعَذّبُكُم} أي الله عز وجل: {عَذَابًا أَلِيمًا} بالإهلاك بسبب فظيع لقحط. وظهر رعد، وخص بعضهم التعذيب بالآخرة وليس بشيء، وعممه آخرون واعتبروا فيه الإهلاك ليصح عطف قوله سبحانه: {وَيَسْتَبْدِلْ} عليه أي ويستبدل بكم بعد إهلاككم {قَوْمًا غَيْرَكُمْ} وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال، أي قومًا مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم وهم أبناء فارس كما قال سعيد بن جبير أو أهل اليمن كما روي عن أبي روق أو ما يعم الفريقين كما اختاره بعض المحققين {وَلاَ تَكُ شَيْئًا} من الأشياء أو شيئًا من الضرر، والضمير لله عز وجل أي لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه أصلًا فإنه سبحانه الغني عن كل شيء وفي كل أمر، وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده العصمَة والنصر وكان وعده سبحانه مفعولًا لا محالة، والأول هو المروي عن الحسن وأختاره أبو علي الجبائي. وغيره، ويقرب الثاني رجوع الضمير الآتي إليه عليه الصلاة والسلام اتفاقًا {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على إهلاكهم والإتيان بقوم آخرين، وقيل: على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد فتكون الجملة تتميمًا لما قبل وتوطئة لما بعد.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16